Monday, October 13, 2008

عن الأدب وانعدامه!


منذ بضع سنوات كانت الساحة الغنائية في مصر والعالم العربي مقتصرة على القليل من الأسماء المصرية والعربية من الموهوبين وأنصاف الموهوبين، حتى يكاد يكون كل مطرب -أو فلنقل "مغنّي"- يتفرّد بتقديم نوع ما من الغناء بغض النظر عن مستواه، ومع
انتشار القنوات الفضائية الغنائية ظهرت مشكلة تغطية مدّة الإرسال، خاصة مع عدم اهتمام كم لا بأس به من الأسماء الموجودة على الساحة بتصوير الأغاني، وأمام هذه المشكلة لجأت تلك القنوات إلى تشجيع "منعدمي الموهبة" للغناء وإنتاج العديد من أغاني الفيديو الكليب،
ولأن هذه الأغاني "معدومة الطعم" كان لا بد من إضافة بعض التوابل - كالتي يضيفها بائعو شطائر الكبد الفاسد- ليجد "المتفرّج" ما يدفعه للمشاهدة، وكانت تلك التوابل بالطبع العري والإباحية والإيحاءات الجنسية، وبمرور الوقت نجحت تلك الأغاني فيما لم تطمح إليه من
الأصل، حيث نجحت في تخليق ذوقاً فاسداً يستمتع "بالاستماع" لأغاني تم إنتاجها بغرض "المشاهدة"!
***
ما دفعني لتذكر تلك الحكاية المملّة هو ما يحدث الآن على الساحة الأدبية، منذ عامين أو ثلاثة كان حال الساحة الأدبية شديد الشبه بما كانت عليه الساحة الغنائية، بضعة أسماء موهوبة أو نصف موهوبة معروفة لدى المهتمين بالأدب، لكن الشيطان الذي سبق ووسوس في آذان
أصحاب القنوات الفضائية قام بدوره أيضاً لدى البعض ليفتح أمامهم "باب رزق" جديد وهو النشر الأدبي! ورويداً رويداً بدأت العديد من دور النشر الصغيرة في الظهور، ولأن حجم الأدباء الموهوبين -أو نصف الموهوبين حتى- الذين يملكون المال الكافي للمساهمة في نفقات
طبع كتاب عدد قليل جداً مقارنةً بعدد دور النشر، بالإضافة إلى وعي البعض بقدراتهم الحقيقية وعلمهم بعدم استحقاقهم للنشر بمستواهم الحالي، فقد لجأت دور النشر لتشجيع أنصاف المواهب ومعدومي الموهبة، وليضمن الناشر ألّا يخسر ماله فقد لجأ لفكرة "حفلات التوقيع" لكتّاب لم يسمع أحد عنهم! حيث يتم الاتفاق على ميعاد ومكان مناسبين لهذا الهراء، ويقوم الكاتب بالطبع بإخبار جميع زملاءه وأصدقاءه
ومعارفه عن "حفلة التوقيع" خاصته، ولكي يقوم الكاتب بالتوقيع لا بد أن يبتاع السالف ذكرهم الكتاب! وبهذا يضمن الناشر توزيع معظم نسخ الكتاب.
وحرصاً من الكاتب على عدم إهمال أي صنف من القراء/المشترين، فقد حرص على إضافة التوابل أيضاً، فلجأ معدومي الموهبة إلى إضافة توابلهم الخاصة من التلميحات الجنسية الصريحة التي لا ضرورة ولا معنى لها إطلاقاً في العمل، لا أؤمن بمفهوم الأدب النظيف،
لكن لا تحوّل الأدب إلى أدب أيروسي (Erotic literature)تحت مسمّى حرية الإبداع!
أما الأزمة الأكبر فهي ظهور أدب لا معنى له إطلاقاً!، قرأت العديد من "قصائد النثر" في المنتديات المختلفة، ولم أتذوق في أي منها جمالاً أو أفهم حرفاً واحداً، لم أر سوى إغراق بشع في التشبيهات عديمة المعنى!، وكان الجميع دائماً ما يمدح ويتحدث عن روعة الإبداع وسحر التشبيهات!، وذات مرة تجاسر أحد المعلقين وصرّح بأنه لم يفهم حرفاً واحداً وطالب كاتبة النص بالتفسير، وكما توقعت لم تعط كاتبة النص أي تفسير لنصها! فقط تحدثت بالهراء المعتاد عن ضرورة أن يصل القارئ للمعنى الذي يريده دون أن يحتاج لشرح من الكاتب!، كان الرد متوقعاً -بالنسبة لي على الأقل، ببساطة..لأن الكاتبة لا تملك أي معنى للنص! فقط بعض التشبيهات الجنسية عديمة المعنى!
أما عن سر اختيار معظم هؤلاء الأدباء لـ"قصائد النثر" فهو سهولة الأمر، لا توجد حبكة قصصية، ولا يوجد وزن أو قافية، بإمكانك "رص" بعض الكلمات بجانب بعضها البعض -كما "تُرص" أحجار المعسّل- لتصنع تشبيهاً لا معنى له، ثم تقوم بـ "رص" عدّة جمل وراء بعضها البعض لتصنع قصيدة! ومن ثم تقوم بـ "رص" عدّة قصائد فتمتلك ديواناً وتصبح الشاعر فلان الفلاني!، ولا أقصد أن أعيب هنا في قصيدة النثر، ما عنيته أن بإمكانك ببساطة أن تُثبت أن تلك القصيدة العمودية لا وزن لها، أو أن قافيتها فسدت في البيت الفلاني، لكن مع قصيدة النثر بإمكان "الشاعر" أن يُرجع عدم تذوقّك "للقصيدة" لقصور بك!
وبمرور الوقت ظهرت أيضاً قصص قصيرة وروايات لا معنى لها إطلاقاً، قصص و روايات من طراز:
"الرجل الكفيف الذى رأي فأراً أجرب؛ بينما كان هاتف صديقته مغلق، فجرى الكلب وراء الطفل؛ ممّا تسبب في إصابة الكهل بسرطان رئوي!"
..
ومع سهولة النشر وسحر ألقاب مثل (الفنان/الشاعر/ القصاص/الروائي)، أصبح الكل يسعى للنشر على طريقة "يعني همّ اللّي بينشروا أحسن مني؟!"، حتى أصحاب المواهب التي تحتاج إلى بعض الوقت ليتم تنميتها وثقلها أغراهم سحر الألقاب واتجهوا للنشر مباشرةً، فساهموا في إغراق الساحة الأدبية، فضلاً عن تخلّي معظمهم عن مواهبهم واتجاههم إلى نفس نوع "الكتابة" عديمة المعنى عملاً بمبدأ "اللي
تغلب بُه العب بُه"، لماذا أكتب أدباً حقيقياً وأستهلك وقتاً وجهداً، وأنا أستطيع النجاح بهراءٍ بحت؟!
..
ربما يختفي الأدب نهائياً بعد بضع سنوات-كما قارب الغناء الحقيقي على الاختفاء-، وربما نرى أدباً أيروسياً فقط، أو نرى جملاً "مرصوصة" ونحاول إقناع الأجيال الجديدة بأن هذا هو الأدب!
وليرحم الله أدباءنا الحقيقيين!
-----------------
ملحوظة: لا أقول هنا بأن كل الأدباء الذين ينشرون للمرة الأولى محض مدّعين، بعضهم موهوب ويستحق النشر بالتأكيد لكنني أتحدث عن السواد الأعظم.
..
على الهامش: الفرق الموسيقية والغنائية اللّي بدأت حاجة محترمة كرد فعل على موجة الهبوط بتاعة أغاني الفيديو كليب، قاربت أن تكون أكثر هبوطاً من الهلس التاني، وبقوا ماليين الساقية تحديداً، لدرجة إني بقيت أندهش لمّا أقابل حد مش عضو ف باند ما!